لم يكن رحيل جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور ـ طيب الله ثراه ـ في الحادي عشر من يناير 2020، فاجعة للعمانيين فحسب بل للأمتين العربية والإسلامية وللعالم أجمع، فهو فريد من نوعه في زمن الانتكاسات، فقد عايش في فترة توليه مقاليد الحكم لخمسين عاما مضت الكثير من الأحداث والمتغيرات على مختلف الأصعدة، وقد نقل عمان من حالة الظلام والجهل التي تعيشها إلى نور العلم وسراجه، فتبدل وجهها الشاحب ونفضت عن نفسها غبار العتمة والفرقة والشقاق والتأخر والتراجع والفقر والعوز الذي يعيشه إنسانها، حتى تحقق له في فترة قصيرة من الزمن ما لم يتحقق لغيره من شعوب العالم والمنطقة على حد سواء، عبر برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية وبناء القدرات وتمكين الموارد البشرية وفرص العمل ونهضة الفكر وغيرها كثير، على أن الحديث عن ما حققه السلطان قابوس لعمان لا يمكن وصفه في مقالات وكتابات ومجلدات وخطب وأشعار، إذ إنه في كل يوم من أيام الخمسين عاما الماضية كانت تسجل صفحات مملوءة من العطاء متجددة من الوفاء لعمان وإنسانها في منجزات تتحدث في صورة معجزات كان الإنسان العماني هو أولويتها وأساس حركتها وسر انطلاقتها وركيزة عملها، ومشروعات يعجز القلم عن وصفها أو سبر عمقها أو احتواء تفاصيلها أو استدراك سرعة تحققها، لذلك كان بحق بصمة استثنائية في عالم متغير انتصر فيها للحياة الراقية التي وضع فيها أبناء وطنه، وذاكرة للتاريخ النابض بالأمل والإرادة والإنجاز والعطاء، فهو سلطان السلام والإنسانية صاحب رسالة، ملهم في زمن التغيير، قرأ تاريخ وطنه والعالم والإنسانية بتوازن، وأدار حركة التغيير برقي، ووجه مسارات التنمية بوعي، ومنح أبناء عمان فرصا أكبر للإنجاز، ووجه خطط التنمية بواقعية الأهداف وثبات المبادئ، وإنسانية الأدوات والحديث عن مناقبه وصفاته وأخلاقه وتواضعه وإنسانيته وعفوه ومواطنته وإيمانه وصدقه وعدله وحزمه، حديث الإلهام في أرقى تعابيره، والتسامح في أنصع صوره، والعطاء في أكمل أوصافه، وحب الوطن والإنسان والإنسانية في أسمى معانيه، تاركا رحيله سيرة عطرة في العالمين، وحياة كريمة عاشها كل عماني على أرضه لتتسع إنسانية القائد وأخلاق السلطان المعظم المبجل الشهم الأبي الشامخ الراسخ للعالم أجمع، فقد أغلق أبواب الحروب، وأسكت أصوات المدافع، وأسدل الستار على تعديات البشر الهمجية، وأوجد مساحات أوسع للحوار والتقارب والانسجام بين الفرقاء المتخاصمين، فوأد الفتنة وأغلق على المتسببين فيها فعلتهم، ودعا إلى السلام وطبقه على وطنه وسيرته الحسنة، ورسم للأمن والأمان طريقه في عمان، وعزز من مشاركته في إدارة الأزمات، ودعا إلى الحكمة والبصيرة والهدوء في مواجهة سياسة الغوغائية والاندفاع والتهور الفكري والإعلامي التي باتت تعيشها الكثير من السياسات في المنطقة والعالم، لذلك خسر العالم برحيله السلام والحكمة وعبقرية القائد والسلطان الأريب المخلص لوطنه في زمن الأنا والمصالح الشخصية، كان بحق صاحب رسالة نقل الأمة العمانية إلى مسار القوة والنهضة والتطور والعلم والعمل والإنتاجية، وعزز فيها روح السلام والمواطنة ورسخ قيم الحضارة الإنسانية الواعية، بل امتلك حدس التوقعات والفراسة بالكثير من الأحداث فتحدث عن الإرهاب والأزمات المالية والفكر المتشدد وغيرها منذ سبعينيات القرن العشرين، في حين أن العالم اليوم اصبح يعاني من هذه التحديات وتؤرق تطوره هذه المنغصات، كما فتح الأمل لقيادات العالم وشعوبه بتأكيده على تنويع مصادر الدخل والسلام والأمن والايجابية واحترام إرادة الشعوب وتوجيه أجندة العالم لحل المشكلات البيئية والاقتصادية والاجتماعية والتي أصبح العالم اليوم بحاجة إلى رسم معالمها وبناء منصاتها لمواجهة الاختلالات الحاصلة في واقعه المشؤوم.
ويبقى السلطان قابوس بما قدمه لبلاده وما اتسمت به شخصيته وما رافق نهج رسالته في إدارة الدولة العمانية الحديثة، وفي تعاطيه مع أحداث العالم والمنطقة مدرسة حضارية لقيادات العالم لتستوعب النهج القابوسي وتبني عليه مسارات عملها، بما ينعكس على بلدانها حياة آمنة مطمئنة، سلام ووئام، تعايش وتسامح، إنسانية ومبادئ أخلاقية ومصداقية في الدور، منهج وعطاء مستمر للوطن، قوة ومنعة، كرامة ونصر، وقبول للتحدي، إيجابية وتفاؤل، أمل وإرادة، أصالة ومعاصرة، قيم الأجداد والانفتاح المدروس المخطط، ثقة في المواطن واستشعار لموقعه في منظومة العمل والحياة، اندماج في الوطن وبساطة في التعامل وتواضع قل نظيره في سياسة السلاطين والحكام، للصغير والكبير، انتقل في كل بقعة من عمان وعايش مواطنيها وتعايش مع الظروف والأحوال التي تعيشها المناطق العمانية مع أنها جميعا لا تمايز بينها، فالنهضة عمت الجميع، والمشاريع التنموية وصلت إلى كل شبر في عمان، في الجبل والسهل، والوادي والبحر، في الشواطئ والرمال، في المناطق البعيدة والقريبة، لقد كانت عمان حياته وسعادته، وأولويته واهتمامه، وروحه ونبضه، وحبه وسعده، وبقدر هذا العطاء لعمان اكتسب شعبية لا مثيل لها، وحبا لم يشاطره فيه أحد، فأحبه الجميع، وعشقته القلوب المطمئنة لوطنها ورضي الله عنه وأرضاه.
لقد صنع السلطان قابوس تحولا نوعيا في وطنه، وإنجازا يشهد له القاصي قبل الداني، فأسّس دولة حضارية واثقة الخطى متكاملة الأركان، واضحة المعالم، ماضية العزم، وأوجد من التشريعات والقوانين التي تحمي أساسيات الدولة وأركانها ومنطلقات عملها لتكون الطريق السليم لقراءة واقع التقدم ومتطلبات التحول ومنظومة التطوير التي سارت بخطى ممنهجة رافقت المتغيرات واكتسبت ثقة الإنسان العماني، فمع اكتمال البنية الأساسية للدولة في كافة مدن عمان وقراها، رافق ذلك اكتمال البناء المؤسسي والتشريعي ومنظومة القوانين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية وغيرها، بعد أن تكاملت الأسباب لها وتهيأت الظروف لتجلياتها في الواقع العماني، وتبلورت التجربة العمانية في ميادين بناء الدولة، ونضجت الممارسة، وقَوِيَ بناؤها، فكان النظام الأساسي للدولة، دستور الأمة العمانية في إدارة الدولة وأنظمة الحكم وتأكيد المبادئ العامة في حياة الإنسان العماني، الصادر بالمرسوم السلطاني السامي رقم (101/96) الذي حدد شكل الدولة، ونظام الحكم فيها، والمبادئ الموجهة لسياسة الدولة، والحقوق والواجبات العامة، وتكوين أجهزة الدولة المختلفة، ليشكل مرحلة تحول في مسيرة عمان المعاصرة وتأكيد منهج العمل المؤسسي المؤطر، وترسيخ بناء دولة المؤسسات والقانون، بل كان مدخلا لاستشراف عمان المستقبل، لذلك أدرك جلالة السلطان قابوس هذه الحقيقة، وأعد أبناء عمان لقبولها ورسم لعمان مستقبلها الذي يحفظ ما أنجز ويصون ما تحقق على أرضها، وأفصح المرسوم السلطاني رقم (105/96) بشأن مجلس الدفاع عن رؤية استراتيجية حفظت عمان الأمانة وصنعت حلم أجيالها القادمة.
لقد أسس السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ دولة مستحضرة كل أسباب التقدم والتطور والتحديث والاستفادة من الخبرات والتجارب التي تحفظ لعمان خصوصيتها وهويتها في توازن دقيق بين القديم والحديث، آخذة بأساليب العصر وأدواته، مع وضع الأصالة العمانية والرصيد الحضاري القيمي والأخلاقي والإنساني والعلمي والتاريخي والتراثي والفنون وغيرها التي برع فيها الإنسان العماني وشكلت مسارا استراتيجيا لتفرده ونهضته وتقدمه في عين الاعتبار، ولقد عزز ذلك من قدرة الدولة العمانية على التكيف مع مستجدات العالم ومعطياته، والتأقلم مع الظروف والمتغيرات المختلفة، برؤية استراتيجية ملؤها الأمل والتفاؤل والإرادة والرغبة في التطوير وشغف العمل من أجل عمان، وفي الوقت نفسه حافظ على الموروث الحضاري باعتباره مدخلا مهما لبناء المستقبل، والتعرف على كل المحطات التي عايشها الإنسان العماني والاستفادة منها وإضافة طابع العصرنة عليها، لقد أدى هذا التوجه إلى سرعة تجاوب الإنسان العماني مع قيادته، وارتباطه الوثيق بها، وأوجد حالة مستدامة من التناغم بين القيادة والشعب في سبيل نهضة عمان، فهب الجميع يسارعون لنيل شرف خدمة عمان والمنافسة من أجلها والتضحية حفاظا على كيانها وصونا لأرضها ومقدساتها وترابها.
على أن وضوح المسار الذي جاء بها السلطان قابوس بن سعيد، والرسالة التي حملها للأمة العمانية، والآلية التي اعتمدها في تحقيق هذه الرسالة ملتزمة مبادئ الحق والعدل والمساواة وسار فيها سيرا حميدا ومنهجا قويما وعملا متقنا ونهجا ساميا، قد عزز من اللحمة الوطنية وقوى من روح التضامن والتناغم والتكامل في البيت الداخلي لعمان، وهو ما صنع لعمان حضورا خارجيا على مختلف الأصعدة، فكانت الرؤية بعد تحقيق حياة سعيدة وعيش كريم للإنسان العماني ونقله من الحالة التي كان يعيشها إلى حالة أفضل ومسار أنضج وأرقى وهو ما أكده المغفور له ـ بإذن الله تعالى ـ في أول حديث له لشعب عمان “سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل وعلى كل واحد منكم المساعدة في تحقيق هذا الواجب”، فإنه سعى إلى استعادة أمجاد عمان ودورها على مر التأريخ، وحضورها الواسع والفاعل في كل المحافل الدولية والعربية والإسلامية والخليجية، حضور القوة والتأثير، حضور الفعل والعمل، حضور المشاركة وإنتاج البدائل، حضور القوة بكل ما تحويه الكلمة من معنى، وقد تحقق لعمان هذا واقعا عمليا، فأنتج سياسة حكيمة ومنهجا سليما ورؤية عميقة وبعدا إنسانيا استراتيجيا حمل في أولوياته استحقاقات التكريم الإنساني لصون الإنسان وحمايته وتحقيق فرص نجاحاته وتمكينه من تحقيق طموحاته وأولوياته، وتسخير كل الفرص له في سبيل نهضته وتقدمه وتطويره وازدهاره، فكان التعليم والرعاية الصحية، وتوفير المسكن الملائم والبيئة الحياتية النظيفة الصالحة للعيش، وتبع ذلك توفير شبكات الطرق والمواصلات والمياه والكهرباء والخدمات العامة وغيرها كثير، ورافق ذلك تبني مشروعات خدمية تستهدف تمكين المواطن بمختلف الفئات من صناعة التحول ورسم استحقاقات كل مرحلة، وتمكينه من الإسهام الفاعل في مختلف مجالات التنمية، فإن المتتبع لمسيرة عمان وهي تستحث الخطى جاهدة بعزم أكيد ورؤية عملية مدروسة من مسايرة الحضارة الإنسانية المتقدمة في مجالات الصناعة والتجارة والإنتاج والخدمات، وبلوغ الأهداف التي رسمها وسار عليها قائد مسيرتها السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ والتي ما كان لها أن تتحقق لولا إرادة الله سبحانه وإخلاص جلالته الذي أحب وطنه فأحبه وطنه وأخلص له، ولولا الجهود المضنية والعمل الدؤوب المتواصل ونتاج ثمرات جهد وعمل لخمسين سنة مضت، كانت أنموذجا عمليا في البذل والعطاء والإخلاص والانتماء الوطني والوعي الشعبي والثقة المتبادلة بين القيادة والشعب والتكامل بين الحكومة والمواطن والالتحام والتفاهم التام بين السياسات والخطط والآليات.
وإذا كان لنا من إشارة إلى ما صنعه السلطان قابوس بن سعيد من نهضة في بلاده، ومسار امتد أثره للعالم أجمع، فإن السياسة الخارجية لعمان في ثباتها واستقرارها ومصداقيتها وكفاءتها وتوازنها وسلاستها، قد عززت من موقع عمان في أحداث العالم، وتقدير الأخير لسياسة السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ وحكمته، فقد نأى بوطنه عن الفتن، ورسم للسلام حضوره في أبجديات الدبلوماسية العمانية، تحقيقا للسلم والأمن الدوليين، وترسيخا لعرى الأخوة والتضامن والتكامل الإنساني، وتأصيلا لنهج الحوار البناء المتكافئ كمدخل لحل المشكلات والخلافات الحاصلة بين الشعوب والدول والحكومات، لذلك غردت عمان داخل السرب العربي والخليجي والعالمي عندما التزم السرب منهج العمل معا، واتجه إلى تأصيل منابع السلام والتنمية والتعايش وحل الخلافات بالطرق السلمية،وتوجيه العلاقات الدولية والسياسات العالمية نحو حماية الإنسان وتحقيق أمنه وترقية متطلباته والتعامل مع القضايا الدولية بروح المسؤولية والشعور بأهمية انتاج الحلول العادلة، وهي خارج السرب عندما لا يعترف السرب بمسارات الحوار والتسامح وتقريب وجهات النظر، ويسلك مسلك السلطوية والفوقية وعدم قبول الاختلاف، ويضع في أولويته الحروب والاعتداء والتدمير وزعزعة الاستقرار والعدوان وإثارة القلاقل وحشد أضعف البدائل لتقوية أجندته ضاربا بكل الأعراف الدولية والقوانين والاتفاقيات والبروتوكولات والقيم الأممية وأخلاق الشعوب عرض الحائط.
لقد وضعت سياسة السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ في أجندتها تحقيق سلام عادل ينهض بقناعات الشعوب ويرقى بطموحاتها ويحفظ لها حقوقها وسيادتها، وبناء منصات حوار متكاملة، وتأسيس توجهات إيجابية تستهدف ترسيخ التعايش والتسامح بين الشعوب وتعزيز فقه تواصل الثقافات وتفاعل الحضارات، وتعزيز التعاون الدولي والشراكات بين الدول واحترام المواثيق الدولية والعمل بها ومساندة المنظمات الإقليمية والعربية والدولية الداعمة للوحدة والتعاون، وتعزيز فرص أكبر للتبادل الاقتصادي وتقريب وجهات النظر وتوجيه الأنظار للقضايا التي يعاني منها العالم كالجوع والمرض والفقر والتلوث والتصحر واختلالات طبقة الأوزون وغيرها من التحديات التي ينبغي أن تجتمع حولها قيادات العالم للحد من تأثيرها على حياة الإنسان وتنمية البلدان، فالسياسة العمانية كما أرادها جلالة السلطان قائمة على الحوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير واحترام السيادة الوطنية وحق الشعوب في تقرير مصيرها ومعالجة القضايا بالطرق السلمية وترسيخ السلام والحوار والتواصل والاحترام كمرتكزات لبناء شراكة عالمية، فأنتجت سياسة التوازن التي رسمها صاحب الرسالة لعمان وحامل القيم والأخلاق لعالم يسمو فوق ضيق الخلاف وصراخ التهديد، ممارسة أصيلة على الأرض ومنهجا فريدا في العمل الداخلي والخارجي المسؤول يسع الجميع خيره، ويحتوي الكل رسمه، أثبتتها المواقف العمانية على مختلف العقود الخمسة الماضية، وعززتها مصداقيتها وجديتها في إعادة إنتاج السلام؛ واكتسبت الدبلوماسية العمانية أبرز سمات الهوية الشخصية للعمانيين المعروفة بالهدوء والصراحة والوضوح في التعامل مع الآخرين، وامتلكت قيم الشجاعة والثقة في النفس، بما مكنها من طرح موقفها والتعبير عنه بعيدا عن الازدواجية، والحرص على بذل كل الجهود الممكنة لدعم التوجهات الساعية لتحقيق الأمن والاستقرار والطمأنينة والحد من التصعيد خليجيا وعربيا ودوليا.
إنها عمان الحضارة والوعي والتأريخ والإنسانية والقيم والعدالة، التي ألبستها الحكمة القابوسية ثوبا جديدا ونهجا مجيدا، فتبدل وجهها الشاحب ونفضت عنها غبار العزلة والجمود، وانطلقت تفتح أبواب الإنجاز ونوافذ الأمل للنور الجديد تعلن للعالم عن اتصال مباشر تتفاعل مع تطوره وتتأثر بمجرياته وتمتلك أدوات القوة في اختيار ما تريد منه، وتوجه بوصلة عملها في التعامل معه، بما انعكس ذلك على الحضور العماني في الساحة الدولية واحترام شعوب العالم وبلدانه لإنسان هذا الوطن، وتقديره لمكانته، والبصمة التي تركتها رؤية المغفور له ـ بإذن الله تعالى ـ مولانا جلالة السلطان قابوس بن سعيد، في كل مواقع ومنصات الإنجاز البشري، فأحبه الجميع، وأشاد بنهجه السامي العالم كله في مختلف بقاعه وأصقاعه، أنموذجا للسلام في عالم مضطرب، وشخصية قيادية مؤثرة ملهمة للإنسانية في عالم يعيش السقطات ويتجه إلى نفوق الأخلاق.
من هنا كان على قيادات العالم اليوم أن تقرأ في نهج جلالة السلطان قابوس مسيرة نهضتها، وطريق قوتها، ومبلغ غايتها، وأن تصنع ما صنع السلطان قابوس لعمان والعالم أجمع، فتثبت لشعوبها أنها قادرة على ذلك بعزيمة لا تمل، وإرادة لا تعرف التأفف والضجر، وحزم لا يقبل التراجع عن تنفيذ المهمة وتقييم الرغبة وإعادة إنتاج الممارسة في طريقة الحكم وأداء رسالة الحاكم، وقدرتها على التأثير الإيجابي في شعوبها، وتكوين قاعدة شعبية صلبة مستديمة تصنع من التناغم بين القائد وشعبه مرحلة إنتاج القوة الداخلية مع المحافظة على سقف مرتفع من الوعي والإدراك والثقافة والفهم التي يجب أن يتحلى بها المواطن، وتقديم كل ما من شأنه توفير هذه الممكنات له حتى يستطيع أن يتكيف مع التنمية والتطوير ويتفاعل مع التجارب، فإن إنسانية الحاكم وكونه صاحب رسالة ومنهج ورؤية، وقدرته على خلق مساحات أكبر للتعايش مع شعبه وأمته، وبناء منصات أكثر لصناعة الوعي، وتعزيز كفاءة القانون والتشريع، وتأكيد سياسة العمل معها، وتعزيز دور الشباب والمرأة وتمكينها، وبناء شراكة أقوى بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مع المحافظة على سقف قوتها وخصوصية كل منها وبين مؤسسات الدولة والمواطنين، فيضع أولويته شعبه واندماجه معهم، وتآلفه مع احتياجاتهم ومتطلباتهم؛ كل ذلك وغيره دروس عملية سطرتها سيرة السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه.
وها هو اليوم الذي جاء بدون رغبة، ودخل بدون إذن، وتقدم من الفجر يعلن عن حدث مفجع وكابوس مظلم وخبر مشؤوم تظلل غيمته السوداء وظلامه الدامس إشراقة أرض عمان، فتشاء إرادة الله أن يرحل سلطان عمان المعظم قابوس بن سعيد ليترك لعمان مآثر عظيمة خالدة لا تنسى وأثرا سيكون مددا للأجيال القادمة ومن بعدهم، فأحب الجميع نهجه ورضي بسيرته، وحزن الكل لفقده وتألم لرحليه لما أنتجه من سيرة حميدة مزهرة في عطائها، نضرة في ثمرها، بهية في إشراقتها، تحمل للشعوب وقيادات العالم بوصلة ترسم طريقهم، وتؤسس لهم القوة في أداء مهامهم في قيادة الأوطان ورعاية الإنسان، وما أحوج العالم لأن يقرأ في سيرة السلطان قابوس ملامح البناء المتفرد والعطاء المخلص والقيادة الحكيمة والمصداقية والثبات في المبدأ، والحكمة في النهج، والإنسانية في القيادة، فلم يكن جلالة السلطان قابوس بن سعيد يعمل لنفسه أبدا، حقيقة ماثلة أمام أعيننا، وواقع كنا نشاهده، بل عايشناه بصدق بعد رحيله إلى جوار ربه، لقد كانت عمان قلبه وقالبه، نبضه وروحه، هدفه وغايته، شفاءه وصحته، رسم معالم الطريق للسالكين المخلصين لأوطانهم وشعوبهم، وبرنامج عمل صنع التقدم والرخاء على هذه الأرض الطيبة.
وها هي الأيام مولاي تسرع الخطى وتنهي خمسة عقود من العطاء والإنجاز، صنعت لعمان فيها أحلاما كثيرة وآمالا عريضة، لتفتح برحيلك صفحة جديدة وفصلا متجددا يبقى قابوس خالدا فيه، مهما غاب شخصه عن الساحة، أو فارقت أعيننا طلته، فما تركه في أبناء عمان خيرا وأبقى، وهي عمان اليوم قوة من الأمر وثقة في النهج، ونحن المفجوعون برحيلك، المحزونون لفراقك، المقصّرون في حقك، الغارقون في أنانيتنا وشخوصنا، في حين أنك كنت من تسهر علينا، وتتحمل أذانا، وتعفو عن زلاتنا وأخطائنا، كنت الرحيم بنا، والعطوف علينا، والفخور بأبسط إنجازاتنا، فرغم ما يعتري جسدك الطاهر من أنين الوجع، إلا أنك تحملت ذلك كله بإشراقتك البهية وطلتك الشامخة من أجل أن نراك أمامنا في قوتك، لتمنح حياتنا الأمل والايجابية والقوة والصلابة والشموخ والإرادة والإنجاز والتحمل، غرست فينا قيمة عمان وحبها والولاء لها، وأسست فينا روح المسؤولية وقيمة التناغم والأخوة والتسامح والتعايش، كنت توجهنا إلى الأمام وتبني فينا الأحلام، لتبقى فينا سيرة الصدق والوفاء والإخلاص للأوطان ماضية، وها نحن اليوم نعيش الألم بفقدك، فقلوبنا كما هي أبصارنا وأسماعنا تنتظر طلتك وسماع صوتك وحنين نبضك، ليعيد ذكرياتنا التي اختزلتها الحياة بعدك، فلروحك مولاي السلام.
د. رجب بن علي العويسي
#عاشق_عمان