لم تكن تلك الطفولة في براءتها وعذوبة ألحانها تدرك أن الرحيل صعب وأن الفراق مؤلم وأن الغربة محزنة، وان الموت نهاية الحياة الدنيوية، لم تكن تدرك أن رحيل السلطان قابوس، وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، إنما هي نهاية أبدية للواقع الحياتي الذي نعيشه، لذلك لم تكن تصدق بأن السلطان قد مات، وأن موته إنما هي رحيل من عالمنا الوجودي الضيق وحياتنا الفانية، لم تكن تستوعب حقيقة ما يجري في الحياة، إذ ما زالت في مخيلتها أن رحيله فترة غياب لا تطول كثيرا، فظلت تصدح بصوتها الملائكي العذب أغانيها في حب قابوس ، كلما حدثتها عن الموت ونهاية الدنيا؛ كانت الإجابة برقصات جميلة وحركات مذهله تعبر عن حب قابوس ، ولسان حالها : قابوس لم يمت هو حي يعيش ، إنهم الصدق بعينه، والأمل في القدر حي يعيش في قلوبنا ، في اضلعنا، في أفكارنا، في خلجاتنا وسكناتنا، في أحلام الطفولة، وطموحاتها، في كلماتها، في أغانيها، في تعبيراتها ؛ فوجدت في رسم ملامح هذا الحب ومعالمه فرصتها للتعمق فيه، تلك التي شاركت بها في لوحتها وهي في الروضة والتمهيدي أو المدرسة وتلك البنت الصغيرة وهي تتراقص أمام أبويها وهم يبكون يصيحون، مغنية انشودتها في حب السلطان قابوس ولسان حالها يقول: هل مات فعلا السلطان قابوس، ولماذا يرحل عنا، وتلك أخرى تقول: أريد أن اسلم عليه واصافحه، وأخر أريد أن أكون معه، ورابعة لماذا كان السلطان قابوس دون غيره، وخامسة ، أبي قابوس أشتاق لرؤيتك، أسئلة عميقة تبحر في وجدان الطفولة، ومواقف الحب الفطري للمغفور له بإذن الله مولانا جلالة السلطان قابوس رحمه الله في قلب أبناء عمان وبناتها؛ كيف نسكتها، أو نحاول سلبها تلك المشاهد المهيبة وجثمانه الطاهر يواري الثرى في سلام عجيب؛ كيف نقول لها بأن قابوس قد رحل، ، ولماذا قابوس رحل، نصيح ونبكي، ونحزن ونتألم ، وتنفطر قلوبنا بسماعهم ، ونحن غارقون في بكائنا، لا ندري إلى أين نصل ، يا الله رحماك بسيدنا، لطفك بنا، ، ، لقد كان لذلك وقعه علينا نحن الآباء والأمهات، ليزيد ذلك كله من ألمنا وأوجاعنا ، وهم يتغنون بقابوس، يحكون الوطن قابوس، يسردون قصة السلام قابوس، يتمنون اللقاء بقابوس، فتردد اسم “قابوس ” حفظته وأتقنت وصفه وحبه قبل أن تحفظ اسم عائلتها ورددت ” يا ربنا احفظ لنا جلالة السلطان وأبشري قابوس جاء فلتباركه السماء “، كما تقرأ بسم الله والفاتحة.
لقد كان للطفولة في رحيل قابوس قصة تطول ، ولحظات لن تنسى، ومحطات سجلتها نهضة عمان الأبية ، سطر خلالها أبناء عمان الأوفياء أنموذجا في حب قابوس الإنسان الوالد ، روحا تستلهم من فكر القائد المفدى عليه رحمة الله في حكمته واصالته وتميزه وتفوقه وتسامحه مساراً لها في العمل الجاد والتألق والرغبة في العطاء بلا توقف والابداع بلا حدود، وهو ما أدركه أبناء عمان وبناتها الأوفياء وهم يتغنون بأمجاد الوطن ويصدحون بحب القائد المفدى، ويجسدون عمق الولاء ومشاعر الانتماء التي تمّيز حياة الإنسان العماني في أخلاقياته وخصوصيته واحترامه وتقديره، وارتباطه بالأرض الطيبة وحبه لحكمة القائد الباني وصانع نهضته رحمه الله، وهي تغرد كبلابل الطير فرحة مسرورة مزهوة فخورة، تنسج لوحات العشق وصدق العشق وروح العشق لعمان، ترسم خيوط الأمل وتزرع بذور العمل وتدفع النفس إلى القناعة بما يقدمه الوطن من أجل انسانية الإنسان، كم هو الوطن جميل عندما تصدح به حناجر الطفولة وتتفوه به شفاه الشباب، وتتلقاه أكتاف الرجال بالعمل الجاد ، يعبرون عن لوحات من ماضي عمان التليد وحاضرها المشرق ومستقبلها الزاهي بألوانه الجميلة الزاهية، لترسم في محيا الأجيال عنوان لحياة ملؤها الحب والوئام والتصالح والسلام، إنهم يحملون الوطن في نفوسهم ويزرعون التضحية من أجله في عقولهم ويسترقون من سبيله مشاهد الحياة الايجابية ومواقفها الخالدة، يصبغونها عليه لحنا جميلا، يزفونها من أجله عملا متقنا، شوق النفس للوطن المطرز بحبات عقد وعطر على قلائد الجمان، رقصاتهم تسامر الوطن في سلامه وأمانه، وكلماتهم رؤية الوطن في فكره وحكمته ، وأصواتهم ترانيم بوح تزين الوطن بشموخه وعالميته، وتكاتفهم يشيد للوطن أركان الحب والاحترام والتعايش.
إنه عالم الطفولة المليء بالمفاجآت والطموحات والتساؤلات والاستكشافات والبحث، حيث البراءة والطهر، والبساطة والعفوية، والفطرة والذكاء، والجمال والصدق، والنضج والحدس، لا يعترف بالمفجعات ولا يرعوي للصدمات ، لأنه يدرك بأن خالقها أوجد لها من الفرح والسعادة ما يصنع لها من لحن الحياة بديلا، لحنها المخضب بلون السعادة، لوحة تعبيرية راقية لمنجزات القائد المفدى وشموخه وعليائه وسموقه ونهضة إنسانه، لتكتشف السر الذي يلازم نجاحاتها والابتسامة التي لا تفارق محياها، فتحيا الأوطان بالطفولة حياة جديدة قوامها الحب والانجاز والطموح والايجابية والبساطة والعمق لتصنع الطفولة من أعياد الوطن ومحطات التحول فيه ملحمة وفاء خالدة عبر أنشطتها الحالمة وترانيمها الصادقة وبوحها الذي يشدو لعالم التسامح والسلام والحب والوئام، مدركة لمقتضياته، عارفة بأحكامه، واعية لمنطلقاته، واقفة عند حدوده ، دارسة لمبادئه، مطبقة لقوانينه، حافظة لمؤسساته، تعيش في سبيل تحقيقه حياة النظام والمسؤولية ولاءً للوطن وحبا للمغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس المفدى رحمه الله، ولتعيد إلى الأذهان وذاكرة الأيام مواقف التضحيات الماجدة التي يسردها لها الآباء والأجداد حول عمان وما قدمه جلالة السلطان قابوس من تضحيات عظيمة في سبيل رفعة هذا الوطن وتقدمه وازدهاره، ولترسم في محياها ابتسامه المستقبل الواعد وهي ترقب خطوات التحول المتسارعة في سبيل بناء الدولة العمانية العصرية التي أرادها أن تكون جلالته قوية متطورة تمتلك أسباب التطور وفق رؤية عمانية خالصة، ليبقى الوطن في ترانيم الطفولة قصة عطاء لا تنتهي، ونبض وفاء لن يتوقف واستحقاقات تصنعها حناجرها وابتسامتها الصادقة وضحكاتها البريئة في سكونها وهدوئها وصخبها وذوقها وبراءتها ، بكل نبرة بوح وصرير قلم وريشة فنان وابتسامة شفاه ، بشدو شاعر، وترنيمة طفل، وفكرة شاب، ودمعة عين ، وحزن قلب، بألم يعتصر النفس، ويقض مضاجع الرحاء، ببكاء الطفولة، ونواح اليتامي والأرامل والكبار، ببوح القصيد ، وعبق النشيد، وعمق التجربة ووصف الحدث، بأقلامهم وكتاباتهم، بكل ذلك وأكثر مما سطرته أبناء عمان في حب قابوس الوالد، رحل حكيم العرب والأمة والعالم أجمع، رحل رجل الإنسانية والأمل والحب والسلام والعطاء، رحل الأب الحاني والقائد الملهم، رحل أبونا قابوس إلى جوار ربه تاركا أحزان الطفولة تبحث عن إجابة عميقة الأثر عن من يحتويها، يحتضنها، يسمع لها، يسامر هواجسها، أين سيكون هذا الاسم بعد أن حفر في أضلعنا وهواجسنا وأحلامنا وأمانينا وأرواحنا ، لطفك ربنا بأبناء عمان، لقد شكل رحيله فاجعة لن تنسينا السنون مددها، ولن تسكت الأيام وقعها، حزنا يضيق الصدر من ثقله، وألما يعتصر قلوبنا تنهار القوى من هوله، فصبرا صبرا بني وطني.
وما أشبه اليوم بالبارحة، إلا أن الفارق بينهما كبير، فتلك الابتسامة التي حملتها الطفولة وصقلت مداد كلماتها وبوح ترانيمها وهي تتغنى بحب السلطان قابوس لم تعد ماثلة اليوم ، لقد سلبها القدر واقتنصها ريب النون، واختطفها موت السلطان قابوس ورحيله عن دنياهم ، لتظل تغاريد الطفولة وتساؤلاتها وأناشيدها الهاجس الذي يساير أذهاننا نحن الكبار ، لتضيع تلك الضحكات والرقصات والابتسامات أمام تساؤلات الطفولة بعد أن فقدت قدرتها على الصمود على بكاء الوالدين والإخوة والأخوات والأجداد والأعمام والأخوال وحتى عاملات المنازل والقائمة تطول، فلم يعد أحد ينتبه إلى رقصاتهم وحركاتهم بقدر ما كان يطلب منهم السكوت والانصات أو مشاهدة الحدث وموكب الجنازة عبر شاشات التلفاز أو الاستماع إليها عبر المذياع ، لتأتي أسئلتهم كالصاعقة في وقعها والصدمة في أثرها، ولسان حالهم : أين نذهب بـ: يا ربنا احفظ لنا جلالة السلطان، وهل سنقول في طابور الصباح: ابشري قابوس جاء، ويعيش جلالة السلطان قابوس المعظم، وأين، وهل سننشد أغانينا التي نحبها في عيد مولد أبونا الراحل “قابوس” ، ومن يوصل لأبينا قابوس حبنا له، وماذا نفعل بما نحفظه من أناشيد وأغاني وطنية ، ( قابوس أبي، وعاش حبيب الشعب للشعب ، وقابوس أبونا، وأبي قابوس جئت إليك أقدم شكري، وسيدي السلطان قابوس فوق العين وتاج الرأس، ويا حمامة طيري طيري سلمي على سيدي، وبابا قابوس، وتجلت عمان) وغيرها كثير وكثير مما جادت به حناجر شعراء الطفولة ورددته ببوحها الراقي شهدا يشدوا بحب المغفور له السلطان قابوس ، لتعبر بصدق عن ذلك المخزون الفكري والمشاعر العاطفية الجياشة الراقية البريئة التي تحملها الطفولة حبا.
لقد ضاقت بنا الأرض ، وصعب علينا الأمر، وتراقصت أمامنا الأحزان، وضاعت منا الابتسامة، وامتسحت من وجوهنا الضحكة، وغابت عنا الفرحة، رحل السلطان قابوس، ورحلت معه أحلام الطفولة وآمالها، وبقيت تتألم ويتألم الكبار برحيله، كيف سنبدأ فصلنا الدراسي القادم، ماذا سنقول في طابور الصباح، هل سيكون هناك اوبريت في الثامن عشر من نوفمبر هل سنحتفل بالثالث والعشرين من يوليو، تساؤلات كثير ة واسئلة عميقة، تحير الأريب الفطن، لتبقى ألحانها كلمات عشق لقابوس مغلفة بنعش الألم ومرارة الحزن الذي يعتصر قلوبنا، يدمي دواخلنا، يكتم على أنفاسنا، لأننا لم نستطع أن نجيب عنها أو تتمالك أنفسنا بسماعها دون أن تتفطر قلوبنا وتنهمر دموعنا وتتلعثم حناجرنا، ونحن متأملون في بحر الذكريات الجميلة والابتسامة القابوسية والاطلالة السامية التي كانت تلامس قلوبنا وتثلج صدورنا، تلك الروح الإنسانية المعطاءة والشخصية القيادية الشامخة التي تجلت لعمان في نصف قرن من الزمان، كم عزاءنا فيك يا وطني كبير، بما تحمله أحلام الطفولة، بتغريداتها، بكلماتها، بنبض حبها، بعشقها، برسمها، بخيالها، ببوحها في حب قابوس، الانسان الوالد، والأب القائد، فلروحك مولاي السلطان قابوس الرحمة والسلام والجنة والرضوان.
د. رجب بن علي العويسي
#عاشق_عمان