قرية “وجمة” احدى جِنان وادي السحتن المعلقة، كانت نقطة البداية لمغامرتنا التي انتظرتها كثيرًا.
تواصل معنا الرفيق عبدالله الهطالي (أبو حميد) بأنه قد حان موعد رحلتنا المنتظرة، فقد تواصل مع فتى الجبال واحد ابناء قرية وجمة “مازن بن سليّم العبري” الذي هيّأ ظروف الرحلة ليسعد بها الجميع.
اليوم الأول:
بعد وصولنا لوجمة اخذنا جولة سريعة فيها لفرط جمالها، فهي قرية زراعية ذات مناخ معتدل يحدها من الغرب جبل شمس وصفيح جبلي يسمونه (الحامية)، وفي شرقها مدرجات زراعية غاية في الجمال تعكس مدى القدرات الهندسية للإنسان العماني القديم، ولكن للأسف الزراعة في هذه المدرجات أصبحت غير مجدية لشح المياه، وبين الحامية والمدرجات الزراعية تكمن القرية الوادعة التي هجرها أهلها بسبب قلة توفر الماء، وصعوبة الطريق، ولكن العم سليّم وابناؤه مازلوا متمسكين بالعيش فيها.
ارتشافنا القهوة في بيت أهل مازن وبعيد صلاة العصر انطلقنا، وكنت حريصا كل الحرص أن نبدأ المسير قبل صلاة العصر لنتحاشى مشي الليل ولكن التأخير وارد بسبب ظروف التجمع .
قاد المجموعة الأولى جمعة الذهلي بينما انتظر مازن لحين اكتمال المجموعة الثانية، وبطبيعة الحال كنت مع جمعة الذي بدأ يشرح كل الذكريات التي مرت به في هذه الدروب.
نصحني أبو حميد أن أتزود بماء “جحال” وجمة الباردة، والنقية التي تخرج على هيأة قطرات من الشقوق الصخرية لتسقط في فتحات هذه الأواني الفخارية (الجحال) ليرتوي منها الضمآن، وكل من قصدها.
كنا نبتعد رويدا رويدا عن وجمة وباقي قرى الوادي ولكنهن يزددن جمالا، والطريق به حواف صخرية تدخلك أجواء المغامرة وتنسيك التعب، وفي أحد المواقع الزّلقة شرح لنا جمعة كيفية سقوط زميلهم إسماعيل رحمه الله، الذي لم يسقط من قلة خبره في هذه الأماكن وإنما قدرٌ مكتوب ولا مفر منه.
ادهشتني بعض أشجار البوت التي مازالت تجود بثمارها في هذا التوقيت من السنة وكانت ثمارا مكتملة النضج وبعضها جاف ولكنه لذيذ جدا، وكنت أتوقف للتزود منه ولو لا استعجال الرفاق لاستغلال الوقت قبل حلول الظلام لأكلت حد الشبع.
استمر المسير وأنا اتبادل الحديث مع جمعة، وهلال البسامي، وإبراهيم اليعربي وكنا في في وقت الغسق ونسابق العتمة لعلنا نصل قبلها ولكن هيهات، فتذكرت قول النابغة مخاطبا الملك النعمان:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خِلتُ أن المُنتأى عنك واسعُ
حل الظلام واستمر المسير وطُلب منا عدم استخدام كشافات الإنارة (البجلي) لأن العين ستتأقلم مع الظلام، فقط سيعتمد دليلنا جمعة على الكشاف ليتأكد من خلو دربنا من الأفاعي والعقارب.
قبيل أذان العشاء وصلنا “عين حبنة”، وهو موقع شاهق يطل على وادي السحتن وبه عين عذبة، وقد بنيت به غرفة، وعريش بمجهودات الشباب، وأجمل ما فيه اطلالته الساحرة على قرى الوادي المتناثرة كعقد لؤلؤ فرطت منه حباته لترسم لوحة فنية متفردة.
أنزلنا احمالنا وإذ بصوت بعض القرويين وهم يجرون جحشهم من طريق أخرى تسلكه الحمير، وقد احضروا لنا -بترتيب مُسبق- تيسًا سمينًا مع متطلبات الطبخ لنقضي ليلتنا في طبخ “التقلية”، وشوي “المشاكيك”، والتصوير، والضحك والأهم من ذلك الأكل الذي لم يتوقف إلى حين النوم، وقد أبلى الجميع بلاءً حسنًا في العمل إلا أن عبدالله الخاطري، وعبدالله الهطالي كانا أشد توقدًا في العمل من النار التي أشعلناها.
اليوم الثاني:
قضينا ليلتنا الباردة في نوم عميق وقد شارفت درجة الحرارة على درجة (١٣ مئوية) فكانت مناسبة جدا للنوم، وفي الفجر كانت المفاجأة لمن لم يعتد على هذا المشهد البارونامي، حيث السماء صافية بسبب انخفاض نسبة الرطوبة لذلك كانت كل قرية تسقط عليها أنظارنا تبهرنا، ونستطيع تحديد بعض تفاصيلها.
بعد التقاط الصور وتناول وجبة الريوق تشاور أمراء الرحلة في كيفية الوصول لمقصدنا “بلدة المزارع” واتخذوا القرار بأن نسلك طريق شرف الهويب، وبسبب مرض البعض، وانشغال البعض قررت مجموعة العودة إلى وجمة من درب أخرى، وكنت قد تمنيت أن يستمروا معنا في مسارنا سيما أن بعضهم رفقاء دروب الجبال منذ زمن كإبراهيم اليعربي، ومحمود الجهوري، وناصر العامري، والبعض الآخر بدأت أتعرف عليه منذ البارحة كهلال البسامي، وعلي الغريب، وجمعة الذهلي الذي كان دليلهم ومرشدهم.
استأنفنا الصعود، ومن فوقنا قمم جبل شمس، ومن أسفلنا قرى وادي السحتن، مرورًا بآثار مسجد في مكان يقال له “لِمعلّة” ثم بغابة مليئة بأشجار العتم، والبوت، والشحص وغيرها من النباتات الطبيعية المتوسطية، في حين بدأت استغل الوقت للتعرف على اعضاء الفريق، وكان من بينهم “ماجد المرشودي” وهو خريج جامعي من كلية الهندسة قرر أن يكوّن مشروعه الخاص به في مجالٍ شُغِفَ به، وأمنتهنه، فهو ينظم مغامرات (أب سيلنغ، وڤيا ڤاراتا) وغيرها من المغامرات التي تتطلب معدات سلامة، وأمان وقد حصل على رخصته من أندونيسيا، فضربنا معه موعدًا أنا وأبو حميد ليضمنا في احدى مغامراته، كذلك كان من بين الرفاق “محمد الجابري” المولع بالتصوير، فإلتقط لنا صورًا غاية في الروعة، أما جاسم العبري فكنت أشنّف أذني عندما يتحدث للباقة سرده للأحداث مع لمسة فكاهية اعتاد عليها .
أكملنا مشوارنا ارتقاءً إلى أن وصلنا لعين تسمى “الهيام” وبعد الشرب منها قرر مازن، ومعه عبدالله الخاطري أن يتسلقا صفيحًا جبليًا بحثًا عن الزعتر، أما نحن فأكملنا مشوارنا إلى القمة وقد تقاطع طريقنا مع درب “السنسلة” حيث “كدس لِمكبّر” الذي أوردت تعريفًا عنه في مقالٍ سابق.
عند “شرف الهويب” حيث القمة اخذنا استراحة للتصوير، والقهوة وكانت” بركة شرف الهويب” قد امتلأت بسبب الامطار في الايام الماضية، بعدها وصل مازن وعبدالله ومعهم القليل من الزعتر فموسمه لم يحن بعد.
هبطنا من شرف الهويب بإتجاه الحمراء سالكين لدرب “مسفاة العبريين”، وحثينا المسير لأن بلدة المزارع مجهولة بالنسبة لنا، وأبو حميد دائم التواصل مع الشباب الذين ينتظرونا هناك وهم من أخواله، واقاربه، وبعد مسير حثيث استرحنا لبرهة عند مسجد للرعاة والمارة في مكان يقال له “دعن الغر” فاستئنفنا السير حتى إلتقى مازن ببعض الرعاة “الشواوي” الذين يعرفهم واستوضح منهم عن درب بلدة “المزارع” فأكدوا لنا خطأنا عند شرف الهويب فكان من الأجدر أن نتجه إلى الشمال الغربي على حافة الجبل إلى أن نسلك درب تدخلنا في شق رأس وادي النمر، والذي سيدخلنا بدوره إلى وادي السِّق حيث يحتضن رأس الوادي بلدة المزارع، وأثناء شرحهم لهذه السُّبُل كنت أتمعن في وجوه القوم، ولباسهم، وتحزمهم بمحازم على طرفها سكين، ومساكنهم المبنية من الحجارة والسعف، ووسائل نقلهم المعتمدة على الحمير لاستحالة وصول المركبات إلى بلدتهم، وبعد أن ودعناهم طلبوا منا التزود بالماء من القُربة “السعن” المعلقة على سدرة في طرف البلدة، فبادرت بالشرب منها ومن معي، وبعد استراحة قصيرة أكملنا مشوارنا إلى مسفاة العبريين فقد رتب لنا أبو حميد سيارة تقلنا إلى قرية “الدار البيضاء” ومنها سنتبع المسار الجبلي الذي يوصلنا إلى المزارع.
وصلنا المسفاة عصرًا وقد وادعنا ماجد المرشودي معلنًا انتهاء مسيره بسبب موعد مُسبق، واستقبلنا أحد أقارب أبي حميد واسمه “عثمان بن نعمان الهطالي” وهو شابٌ ذو خلق، وكرم، كأخوته وابناء عمه، فبعد أن رحّب بنا أقلنا إلى بلدة “الدار البيضاء” ورافقنا في ممشانا إلى “المزارع” التي كنا نراها تحت أقدامنا بإنحدار شديد ولكن طريقها لم يكن بتلك الصعوبة رغم انحداره، وكنت ملازمًا عثمان للاستمتاع بشرحه، والاستفادة من معلوماته عن كل شبر في هذا المكان القاصي.
وصلنا المزارع قبيل العَتَمة وكان عبدالملك، وعبدالله، وعمّار يعدون العشاء لضيافتنا، بينما عثمان يقوم ترتيب المكان فرحًا بنا، والسرور يعلو محيا القوم، وبعد الصلاة ذهبنا لنسبح في “اللجل” وهي بركة ماء تتجمع فيها مياه الفلج الباردة، ولشغفي بالماء البارد كنت سبّاقًا للنزول إليها.
بعد العشاء، بدأت السهر ولأن المكان يخلو تماما من شبكة الارسال كانت سهرةً ممتعة، وخالية من المشتتات، وبرز فيها مازن بطرح قصصه ذات الطابع الكوميدي، وقهقهات ضحكنا يتردد صداها من الجبال المحيطة بنا، وإن تعب مازن تداخل موسى العبري، وجاسم العبري لتنشيطه، فكانت سهرةً ملؤها الأُنس لم نستمتع بمثلها منذ زمن.
اليوم الثالث:
أذن عبدالملك الهطالي لصلاة الفجر، وبعد الصلاة لبسنا ملابس السباحة ثم تحركنا إلى “كور البلول” وهي عبارة عن بركة مائية عميقة استمتعنا فيها سباحةً، وقفزًا من صخورها المرتفعة، وشدني في الطريق إليها وجود أواني فخارية لتجميع قطرات الماء الساقطة من النوازل في الكهوف المحاذية لدرب البرك المائية، والتي ذكرتني بجحال قرية وجمة، وبعد السباحة المنعشة تناولنا وجبة الفطور ثم بدأ عثمان بتعرفينا على بلدة المزارع وهي عبارة عن حديقة كثيرة الزرع، ولا يقطنها أحد، وما يميزها هو تداخل المناخات فيها فنتج عن ذلك تنوع المحاصيل، فتجد التفاح، والحمضيات بأنواعها، والكرز، والخوخ، والتين، والرمان، والعنب، والأمبا العماني وغيرها من المحاصيل فضلا عن زراعة العلف الذي يمد الماشية بالغذاء.
بعد جولتنا الشيقة في بلدة المزارع ارتشفنا القهوة ثم ودعنا عثمان ليعود إلى مركبته في بلدة الدار البيضاء بينما نحن سنسلك درب الوادي المليء بالمغامرات وكان عبدالملك دليلنا في هذا المسلك، بينما عبدالله، وعمار لديهم مهمة مع بعض شباب المسفاة لاصلاح جزء من هذه الدرب.
كعادتي أحرص على مرافقة الدليل للتزود بالمعلومات فيما يميل بعض الرفاق للاستكشاف، والاستنتاج وفي الحقيقة هذه الدرب تحتاج لخفة وزن، لذلك أحسست بمضايقة الأوزان الزائدة في حقيبتي فأحيانا يتطلب الأمر منك القفز بين الصخور، وأحيانا تمر في ممرات ضيقة، وحواف زلقة ورغم ذلك فإن متعتها وجمالها يكمن في أنك تعيش جو المغامرة الحقيقي، لذلك حاولت الاستمتاع بكل تفاصيل الطريق وما شدني هي مهارة الشباب في هكذا أماكن وخاصة “وعل الفريق” بدر العبري، الذي كان يستعرض رشاقته، ومهارته في هكذا دروب وحُقَّ له ذلك.
وصلنا “مسفاة العبريين” بحمد الله وختمنا رحلتنا بالسباحة في بركتها المشهورة “لجل المسفاة”، وبعد شكر عبد الملك ووداعه تناولنا وجبة الغداء عند “محمد بن سلمان الهطالي” الذي أصر على استضافتنا ولم يعذرنا، ثم عدنا أدراجنا عند أحد رفقاء مازن.
أيها الرفاق:
حتمًا ظفرنا بالحقيقة في هذه المغامرة، حقيقة الطبيعة النقية التي عشناها في كل لحظة، والأكيد أننا سنعيش ذكرياتها لنضيف لأعمارنا عمرًا خاليًا من التلوث.
عبدالعزيز الكيومي
الثلاثاء، ٢٩، أكتوبر ٢٠١٩
#عاشق_عمان