تعيش مجتمعات اليوم تحولات كبيرة انعكست على المنظومة الاجتماعية عامة والعلاقات بين أبناء المجتمع بشكل خاص، فعلى الرغم مما أحدثته من تأثيرات إيجابية في مسار الحياة والرفاهية والمعيشة الاقتصادية وفتح افاق أوسع للأعمال والتعليم والثقافة والفكر والنهضة العمرانية وعمليات بناء الانسان وفرص تعلمه وتدريبه؛ إلا أنها أسهمت في إحداث اختلالات في بناء الاسرة والعلاقات البينية في إطار الاسرة الواحدة ( أبناء الاب الواحد أو الاخوة والاخوات وبين الأبناء والاباء والازواج والزوجات وغيرها)، أو على مستوى العلاقات العائلية بين أبناء الاعمام والاخوال والعمات والخالات لتصل إلى فئات أخرى في العائلة، أو على مستوى المجتمع بين الجيران والأصدقاء وغيرهم ؛ عزز ذلك انحسار ضابط الوعي ومشترك الفهم وتصادم الاهتمامات والقناعات وتغاير الطموحات.
لم تعد العلاقات الاجتماعية قوية بالشكل الذي تتحمل فيها كل حالات الزيغ أو سقطات الكلام والحساسية المفرطة من تجاوزات كلامية أو سلوكيات فطرية تحصل بين الأطفال أو سقطات لسان في كلمات غير مقصودة، لتثير حالة من الشد والجذب وربما تصل إلى المحاكم والادعاء العام. فأصبحت العلاقات الاجتماعية تعاني من الترهل الفكري والنمطية في الأسلوب والإدارية وهشاشة أدوات الردع والتصحيح وزيادة مساحات التنافر وقلة القائمين على الإصلاح ، فالكل مشغول بنفسه، ومن يعنيهم أمر العلاقات الاجتماعية لديهم ما يشغلهم عن أحداث الاسرة أو القيام بدواعي الإصلاح وجمع الكلمة ، فالأسهل له أن يرمي القضية إلى المؤسسات المعنية ، لتتجه إلى لجان التوفيق والمصالحة أو المحاكم والادعاء العام ، لقد ابتعدت عن الهدف وتجاوزت المسار، وارتطمت بمطبات جديدة ما كانت في الحسبان أثرت سلبا على الثقة والتقدير والاحترام والشعور الجمعي، لقد أنتجت هذه الحالة من التصادم في المواقف أحداث اجتماعية تتقطع لها القلوب ويندى لها الجبين، في ظل حالة التقزّم في السلوك والجفاء في التعامل والصد والهجران في العلاقات، وسوء التصرفات التي تستهدف المزيد من الاستفزاز، وحالات الحسد والانتقام التي تنتشر بين أبناء الاسرة الواحدة، ولعل المتابع لما يدور في أروقة المحاكم والادعاء العام والمؤسسات الشرطية من قضايا الاسر والعائلات، والمؤشرات التي تحملها هذه الاحداث ما يدق ناقوس الخطر، ويصيب الغيور المخلص لوطنه ولأمته بالذهول والقلق، فإلى أين تتجه ممارسات المواطن في ظل تزايد هشاشة العلاقات الاجتماعية، وتراكم المواقف والحالات المسيئة لأخلاقه وقيمه ومبادئه وهويته، وأين هو مما أسسه السلف الصالح أبناء هذا الوطن في بنائهم الاجتماعي وارتباطهم العائلي وتسامحهم الفكري والمذهبي والأخلاقي فأنتجوا معايير القوة واسسوا منهج السلام وبنو منصات الحوار، في حين تتنافى ممارسات واقعنا الاجتماعي مع فلسفة المجتمع وبنيته الاجتماعية.
وبدورها تشكل حالات الطلاق والخلافات العائلية والمشكلات الزوجية وغيرها من القضايا المرفوعة إلى جهات الاختصاص ، مؤشرات مقلقة وحالة مفزعة تضع الجميع أمام مسؤولية البحث عن أسبابها ومسبباتها وكيف يمكن الوصول إلى إطار مجتمعي يمنع من استفحال هذه المواجهات وزيادة حالة التنمر المنتشرة بين أبناء الاسرة الواحدة ، فإن بعض القضايا الجرمية التي تابعها المواطن في فترات سابقة، تبرز هذا التباين الحاصل بين الاسرة وحجم التباعد بينها ، وثقل ما تحمله من منغصات وأحقاد وتربصات نحو بعضها البعض، أو ما تحمله في ذاتها من مواقف أدت إلى حدوث شلل في الحياة الاسرية، فهل نتوقع في ظل تقدم التقنية ومنصات التواصل الاجتماعي والواتس اب والنقلة النوعية في الاتصالات أن لا يكون لدى أحدهم رقم اخته أو ابنته أو أخاه أو أمه ولا يعرف أخبارهم ولا يتقصى أحوالهم ولا يعنيه أمرهم ولا يسمع منهم شيئا إلا من علم الناس وحديثهم ، ألم يكن لديه الوقت ليرفع سماعة هاتفه ليتصل بأمه أو أخته، ألم تصنع له السنوات الأولى من حياته وهو بين ظهرانيهم مشتركا يشعره بوجودهم بينه أو حضورهم في نبضه، أو أن حاجته إليهم تتعدى دافع المال بقدر ما هي حاجة فطرية وفسيولوجية للاجتماع والشعور بالآخر، فالإنسان مدني بطبعه وهو بحاجة الى من يستشعر وجوده ويهتم بحضوره، وليس هناك أقرب للإنسان من أبويه وأخوته، وأعمامه وأخواله، وعماته وخالاته وأرحامه، ومن يجمعهم رابط القرابة والنسب أو صلة رحم ومن يربطه بهم رابط الدين والجوار ومشترك الوطن. ثم أين يقع الأجيال في خضم هذه الأجواء العائلية الملبدة بالمشاحنات والكراهية والاحقاد والضغائن، بما تحمله في ذاتها من معاول الهدم وعوامل التخريب وتدمير الكيان الاسري وإرهاق البيت العائلي بقضايا ثانوية تتداخل فيها الأمزجة والذاتية.
ومع أن تناول هذا الموضوع والحديث عنه ليس بجديد على واقعنا الاجتماعي في ظل المعطيات الحاصلة؛ إلا أن التخوف من أن تصبح ظاهرة اجتماعية وسلوك اعتيادي، وفي المقابل ندرك أيضا بأن الخيرية في هذا المجتمع باقية وأدوات التوجيه والإصلاح ماضية تحتاج إلى من يستثمرها ويوجهها لصالح تعزيز التناغم الاسري والترابط العائلي فهو ركيزة المجتمع للبناء والتطوير وقوته التي تعينه على بلوغ أهدافه الوطنية وغاياته السامية، فكما أن التعميم في الحديث عن هذه الموضوع أمرا غير صائب ، فإن هناك من الاسر من رسمت أروع نماذج التضامن والحب والتآلف والتعامل والاخوة وتقوية المشتركات، يظهر ذلك واضحا في طبيعة تواصلهم ونمو علاقاتهم وكثرة لقاءاتهم، وقلة مشكلاتهم ، وحضور المثقفين والواعين ,أصحاب المبادئ بينهم في تقريب عرى التواصل وزيادة مساحات الانسجام، ونهوض دور المبادرين وأصحاب الهمم منهم في تقديم دور الدعم والمساندة لبعضهم البعض ليستشعر المتابع لواقعهم هذه النخوة والفزعة بينهم والترابط والتكامل بين أبنائهم، كذلك فإن الحديث عن مبرر واحد مقنع تتجه إليه الأنظار في فتور هذه العلاقات وضمورها، غير ممكن ويبقى كل ما قيل في هذا الشأن وما كتب بشأنه ؛ اجتهادات فردية وتشخيصات تعبر عن رؤية قاصرة، ومع ذلك فإن الإشارة إلى هذه المسببات أو الحديث عنها أو القاء التبعات واللوم عليها، مدخل يمكن أن تستفيد منه المؤسسات المعنية بشؤون الاسرة والمجتمع في رسم سياسات أكثر نضوجا ومهنية تستفيد من كل الآراء التي تطرح والأفكار التي تتناول هذا الموضوع والدراسات التي أفصحت عن بعض المقترحات التنفيذية لها من واقع تحليل هذه القضايا أو من خلال التساؤلات والمواقف التي ترصدها.
على أن رصد الأسباب والمسببات وتشخيص هذه الحالة عبر دراسات تتبعيه ومنهجيات رصد علمية، تتخذ شكل العمل الوطني المؤطر، والرسمي الممنهج، سوف يوفر قاعدة بيانات وطنية يمكن توظيفها في أي قرارات قادمة تتجه لحماية الأسرة وتعزيز أواصر العلاقات الاجتماعية بين أبنائها، وضمان المحافظة على سقف التوقعات في قدرتها على رسم ملامح التجديد وتعميق روح الإيجابية في التعاطي الواعي مع أي منغصات أو مشوشات تحصل في إطار الممارسة اليومية، وفي تقديرنا بأن هناك قائمة عريضة وطويلة لا يتسع الحديث عنها أو سبر أعماقها، إلا أن قاسمها المشترك يتجه إلى خيط واحد له توابعه السلبية أصبح يدير العلاقات الاجتماعية ويوجها مسارها، يتمثل في خيط الماديات والبحث عن اشباع الذات والسعي نحو الفرص المادية التي باتت تتحقق على حساب الجوانب الأخرى، وكأنّ لسان الحال يقول : ” بقدر ما أعطيت البعد المادي اهتمامك ووقتك وجهدك بقدر ما أشغلك عن كل أولويات الحياة وضروراتها ، وأولها الاسرة والعائلة ومن على شاكلتهم” والمتتبع لواقعنا الاجتماعي يلمس هذه الحقيقة ماثلة ، فمع واقعية هذا التأثير فإنها في المقابل لا ينبغي أن تشغله عن اهتمامه بنفسه وخصوصياته واسرته وعلاقاته الاجتماعية وسيرته بين أهله وجيرانه وأرحامه ، كما لا يجب أن تشغله عن ربه ومسؤولياته نحو دينه واخلاقه وصلواته والتزاماته ، إن التحدي التي باتت يؤسس لمثل هذه التناقضات هي افتقارها لحس الانسان المسؤول، واستشعاره لمفهوم الفرص وكيفية استثمارها ، والقناعات التي باتت تصنع في عقليته وفكره مساحات ضيقة لا تتسع إلا للماديات وكسب المزيد من الثروات، أو حالة القلق التي يسببها الهاجس المادي لديه كتأخر الراتب وزيادة الأعباء الاسرية ، والتكاليف التي باتت تلقي عليها مسؤوليات حياتية، كل ذلك وغيره أصبح يشكل تراكمات سلبية في فهم الانسان للماديات واختزالها في سلوك عقيم لا يتجاوز اشباع حاجاته دون التفات لغيره، فيصبح اللجوء للمجتمع أو الاسرة أو الأصدقاء إنما يأتي كمرحلة متأخرة مرتبطة بتعسر الظروف وضعف الحال، وهكذا اتجهت العلاقات الاجتماعية إلى حالة من الفتور والتذبذب والانكماش وغطت على ايجابياتها كل المحطات والمواقف التي عايشها الانسان مع أهله وأرحامه في فترة سابقة، ومع الماديات ونزغتها التي اتجهت بسلوك الانسان إلى الانانية والفردانية والفوقية والسلطوية وأبعدته عن الواقع الاجتماعي ليعيش في زاوية مغلقة، حتى وان تجاوز ذلك الحقوق وتعدى على موجهات الشرع، وإن من بين الجوانب التي ارتبط بهذا السلوك شطحات الخصوصية التي اتخذها البعض شماعة في الانطواء مع عالمه الخاص، ومسوغا يبرر بها موقفه.
ويبقى التساؤل مطروحا كيف يمكن أن نحقق القوة في العلاقات الاجتماعية في وقت أحوج ما يكون فيه المجتمع لنمو هذه العلاقة وسموها فوق كل الخلافات، وابعادها عن كل أشكال الكراهية وتوجيهها لصالح البناء المجتمعي بما يضمن تحقق سلاما داخليا قادرا على إزالة كل محطات التشوية التي تتعرض لها المجتمعات، وتوجيه هذا السلام لصالح قدرة المجتمع وكفاءته في مواجهة التحولات والتحديات الاجتماعية والاقتصادية، وتحديات التشغيل ونفوق القيم والاخلاقيات، والتي تؤكد حاجتها اليوم إلى وعي مجتمعي وتكاتف كل القطاعات وفاعلية دور المواطن في رسم معالم التغيير. إن تحقق ذلك مرهون بإعادة انتاج الواقع الاجتماعي بكل معطياته ومداخله وعملياته للوصول إلى نواتج تصنع القوة في العلاقات الاجتماعية، وتأطيرها وفق فلسفة الدين ومنهج الإسلام الحنيف وما أكدته الشريعة الاسلامية في هذا الجانب سواء في الحقوق والواجبات والمسؤوليات، ومأ اصلته من جوانب الخيرية والسلام والبر والايمان ، وأكدته من قيم التعارف والتكامل والتناغم بين أبناء المجتمع الواحد، وهو تحول يجب أن يصنعه المواطن نفسه وارتباطه بفلسفة الحياة الأسرية السعيدة وتوظيفه للمبادئ والأخلاقيات التي تربى عليها وتأسست فيه منذ نعومة أظفاره؛ كما يتأكد من خلال التعليم والاعلام ومؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى بما تبنيه في أخلاقيات الانسان من فضائل وتنشئ عليه قيم الأجيال في المحافظة على الاسرة ومتانة العلاقات الاجتماعية وعلاقة الرحم وحقوق ذوي القربي، وبالتالي الوقوف على النماذج الإيجابية المضيئة ، والانماط الحسنة والممارسات المجيدة، وترقية مفهوم العلاقات الاجتماعية، وإيجاد حالة من التناغم بين متطلبات الحياة الإنسانية في ظل مفاهيم الماديات والاحتياجات، وبين متطلباتها في ظلال قيم الحب والتآلف والتناغم وحس المسؤولية وحسن الجوار واحترام الكبير وتوقير الصغير ، ومبادئ العلاقات الاسرية والاجتماعية وحقوق مختلف الفئات بالمجتمع ، وبالتالي إعادة انتاج المفاهيم وتصحيحها وتوجيه الممارسات والافكار المتداولة ، بما يؤكد في الوقت نفسه أهمية البحث عن تقوية المنصات الاجتماعية والتفاعلية والتواصلية مع المجتمع وبين أبنائه وخلق أدوات تضمن تأكيد اللحمة الاجتماعية وتوجيه الفرد إلى الاعتراف بالمشتركات الإنسانية والأخلاقية والمبدأ والمصير كمنطلقات لسد فجوة التباعد وترقية مسارات التواصل وخلق سلوك اجتماعي يستفيد من كل المحطات الاجتماعية والتعليمية والتشريعية التي عززتها الدولة وأطرها النظام الأساسي للدولة، لضمان المحافظة على الحقوف، وأداء الواجبات والمسؤوليات، ومنع الاعتداء، والرجوع إلى القانون أو التشريع في حالة ما إذا غلبت نوازع النفس على مسارات الاصلاح أو العفو أو التسامح ، باعتباره المساحة التي يستشعر فيها الجميع قيمة الحياة في ظل السلام والعدالة وتقدير الذات والمحافظات على الانفس والوصول إلى نواتج تحقق الرضا وتبني في النفس قيم الخيرية والمنافسة في بلوغها والسمو في السلوك والقوة في الخلق ومنع الغيظ والانفعال وترك الغضب وشهوة النفس في تحقيق مصالحتا الذاتية.
إن البحث في العلاقات الاجتماعية بما تحمله من شجون وما تمنحه من شعور إيجابي في حياة المجتمع، يتأكد اليوم في الحاجة إلى تأصيل قيمة الوعي والفهم والثقافة الاجتماعية والاسرية وتصحيح الممارسات الحاصلة عبر تعزيز الممكنات النفسية والتنظيمية والتوعوية والتثقيفية وبرامج الاعلام والتوعية الاسرية، لتطرح في الوقت نفسه الحاجة إلى مزيد من التشريعات التي تحفظ كيان الاسرة والعلاقات الاجتماعية في محيط الاسرة والعائلة والاقارب الارحام، وفي محيط المجتمع كالجيران والاصحاب والانساب أو محيط العمل والممارسات الحياتية الأخرى كالبيع والشراء وغيرها من المواقف الحياتية التي أوضحها الشرع وأكدتها قيم الشريعة ومبادئها، ويبقى دور المؤسسات المعنية في قدرتها على إيصال هذه الصورة الإيجابية المتكاملة لحياة الاسرة في ظلال الإسلام ومبادئه وقيم المجتمع المسلم واخلاقياته، بأسلوب يتسم بالديناميكية والتبسيط والقدوة مراعيا كل المعطيات والمتغيرات والمفاهيم المتداولة بين أبناء المجتمع والاحتياجات اليومية المادية التي تؤسس لنمو العلاقات الاجتماعية وتضبطها وفق مسارات الشرع والقانون، وكيف يمكن توجيهها كمنصات داعمة لبناء القوة في العلاقات الاجتماعية ، وإيجاد البرامج التدريبية والتحفيزية على نطاق الاسرة والمجتمع بما يضمن تصحيح هذه المفاهيم وإعادة هندسة السلوك الإنساني نحو الآخر من بني جنسه وفق معايير الاخلاق والقيم والمبادئ السامية الرفيعة، فإن الثروة الأخلاقية والايمانية التي انتجها الإسلام كفيلة اليوم بمعالجة الكثير من المشكلات الاجتماعية التي يعانيها المجتمع، ويبقى قدرة هذه الجهود على احتواء الممارسة الاجتماعية وصقلها بالأخلاقيات والقيم وتوجيهها التوجيه الصحيح ومنع كل الفرص التي تتيح وجود مثل هذه الثغرات في العلاقات الاجتماعية مرهون بمستوى حشد التضامن الاجتماعي في التعاطي الواعي معها وسد الذرائع نحو الاستهتار الحاصل في العلاقات الاجتماعية والاسرية، والتعامل الواعي مع حالة التشويه اللامسؤولة التي تتعرض لها العلاقات الاجتماعية والافراط الحاصل في الحساسية الشخصية والامزجة الذاتية والقناعات الفردية التي باتت توجه مقاصدها.
د. رجب بن علي العويسي
[email protected]
#عاشق_عمان