في ظل عالم يموج بالمتغيرات المتسارعة والأحداث المتداخلة والمصالح المتصارعة، والتي أحدثت تأثيرا سلبيا في التوازنات المفترضة بين توفير الأمن وبناء الانسان والعلاقة التكاملية بينها، وحالة الانحسار الأمني التي أرهقت الشعوب، ووأدت التنمية، وأضاعت ما قدمته الإنسانية في تاريخها من مآثر، وما تركته من ثروات وموارد وإنجاز بشري، وما يواجهه واقعنا المعاصر من أحداث وحروب واقتتال داخلي وترف معرفي وأخلاقي يتسم بالهشاشة والترهل والتنمر والاقصاء، وقضايا متعلقة بالأمن الاجتماعي وغوغائية السياسة والهدر الإعلامي والإرهاب والتشدد الفكري وغيرها التي قوضت شعور الإنسان بالأمن والاستقرار؛ كل ذلك وغيره ألقى بظلاله على مدى استفادة الانسان من الفرص التي توفرت له في عالمه، وتوجيه الأمن إلى تعميق فرص الاستقلالية والإنتاجية وبناء الاخلاقيات وتأصيل الوعي وتأسيس مفاهيم الالتزام والشراكة والمسؤولية، لذلك كان الحديث عن علاقة الأمن باستدامة التنمية علاقة عضوية لا ينفك أحدهما عن الآخر، وهما في حاجة كل واحد منهما للآخر وجهان لعملة واحدة، غايتها الإنسان، وأثمرت التحولات الحاصلة في مفاهيم النسق الأمني وأدواته ومتطلباته ومعايير تحققه في الواقع الاجتماعي، ودخوله في كل جوانب الحياة اليومية للإنسان، أهمية البحث في استراتيجيات أكثر احترافية للبناء الإنساني وإعادة نتاج واقعه بطريقة تضمن قدرته على هندسة الواقع العالمي من جديد، في ظل الاستفادة القصوى من الفرص التي أتاحتها التقنية ووفرتها وسائل التواصل العالمي في ترقية معالم الحياة الإنسانية وترسيخ مساحات أكبر من الأمان والاستقرار والنمو والتنمية.
لقد صاحبت التحولات الحاصلة في مفاهيم الأمن الإنساني؛ قراءة جديدة لمنظومة الأمن في شموليتها واتساعها وعمق ارتباطها بالإنسان وبسياسات التنمية وبرامجها التطويرية، والتي عززت من القيمة المضافة لرأس المال البشري وإنتاج العقول، ليكون السلوك الأمني الناتج بمثابة إطار للمحافظة على العقل الاستراتيجي وحسن استثماره وتوظيف قدراته، والذي انعكس على البعد الأمني نفسه والقراءات التي بات يطلقها حول التنمية والمفردات والمفاهيم التي وجدت في ظل الأمن فرصتها للدخول في واقع الممارسة اليومية للمواطن، الذي عليه أن يعيد مسارات عمله، وينظر لطبيعة الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والبيئية والتعليمية الحاصلة في المجتمع، ويعيد هندسة إنتاجها بطريقة تضمن لها فاعلية الأداء وكفاءة الممارسة وقوة التأثير، والبحث عن فرص أكبر لابتكار آليات عمل جديدة، وأُطُر فكرية واخلاقية تتجاوب ومعطيات السلوك الاجتماعي والتغيرات الحاصلة فيه الناتجة عن اتساع الحالة الجرمية وتعدد مسبباتها وزيادة مستوى القلق المرتبط بالتقنية كالجرائم الالكترونية والابتزاز الالكتروني والجرائم المنظمة والهدر الأخلاقي والقيمي، وبالتالي البحث في آليات عمل يؤسسها الأمن ويحتويها ويوجه معالمها بطريق تتناغم مع متطلبات تحقيق الوعي المجتمعي وتأصيل ثقافة الإيجابية، وفق أدوات تؤسس للاستدامة والابتكارية، عبر منهجيات عمل واضحة للتنمية المجتمعية، وترسيخ مبادئ الوعي والثقافة الأمنية، وتعزيز السلوك الايجابي والفكر السليم، وتأصيل ثقافة الوقاية، وترسيخ مبادئ العلم بالقانون، وفهم التحولات الحاصلة في منظومة العمل الإنساني بطريقة أكثر عمقا تأخذ في الحسبان كل المتغيرات والعوامل المرتبطة باستدامة التنمية، وبالتالي شكّل البعد الأمني في اتساعه وشموليته مدخلاً لتنمية مستدامة في ظل بيئة عمل استثمارية آمنة مطمئنة، تضع حماية الانسان والمحافظة عليه في أولويات عملها بما تتخذه من اجراءات قانونية وتثقيفية وبرامج إصلاحية مختلفة، تجنب الانسان مخاطر الضرر بنفسه ومجتمعه والعالم من حوله، وتمنحه فرصة أكبر لتغيير ممارساته ومراجعة تصرفاته في كل المواقف الحياتية دون استثناء، والتأكيد على أهمية التزامه بالمبادئ والأخلاقيات والمُثل التي تضعه في مقام المسؤولية وتبني فيه أخلاق المسؤول عن تصرفاته، الواثق من التزامه معايير المجتمع وهويته.
على أن المتتبع لما يحمله البعد الأمني في حياة المجتمعات من قيمة استثنائية ترفع من سقف التوقعات في فرص النجاح، والوصول إلى منافسات جادة تؤسس لكفاءة المورد البشري، يجد بأنها مرتبطة أيما ارتباط بتحقيق الأبعاد النفسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تشكل حجر الزاوية لأي تنمية مستقبلية لها مقوماتها تنشد الاستدامة وتقبل المخاطرة والتحدي، بناء على كفاءة ما تمتلكه من بدائل وسيناريوهات عمل،ووضوح عمليات التقييم والمتابعة والتشخيص والمراجعة وقوة أدوات استشراف المستقبل، إذ لا يمكن تصور قيام تنمية مستديمة قادرة على المنافسة والثبات في وجه المتغيرات والتحديات، وتحظى بالمزيد من الترابط والتناغم والتفاعلية والتفاؤلية وتبنيها والمحافظة على قواعدها وأخلاقياتها من قبل مجتمع التنمية ذاته والمورد البشري الذي ينتمي اليها، بدون أن يكون لها خيط اتصال فاعل بمسارات الأمن والأمان والاستقرار، فهو الذي يكسبها قوتها، و يدعم نجاحاتها، ويوفر لها بيئة عمل مساندة، ويضمن لإنسانها فهمه للحقوق والواجبات والمسؤوليات والوقوف عند المعطيات المرتبطة بحياته واستقراره وأمنه وأمانه. وعلى هذا كان يجب النظر إلى التحول في العمل الأمني من خلال هذه المقاربة التنموية، والعلاقة العضوية بين الأمن والتنمية، وهو ما يجب أن تعمل في إطاره خطط التطوير الأمني وتغرسه في فقه عناصر الأمن والمواطن العام وثقافته وسلوكه والتزامه وأخلاقه ومناهجه وتفاعله مع الواقع، أو في القيمة المضافة التي يصنعها تحقق هذه المعايير وقواعد السلوك الوقائي الآمن، وتعمل بدورها قطاعات التنمية كالتعليم والاعلام والقطاع الخاص ومؤسسات الاستثمار والعمل الاجتماعي، على ترسيخ هذه المفاهيم الايجابية النوعية في حياة الأجيال وارتباطهم الفكري بالتنمية وتصحيح الممارسات والأفكار والمفاهيم التي قد تتجانب وتحقيق هذا التناغم أو تتجافى مع استشعارهم له.
على أن التطور الذي تشهده السلطنة في كافة المجالات الاقتصادية والسياحية والاجتماعية، والتوسع العمراني، والنمو السكاني وما صاحب ذلك من مشاريع تنموية ؛ تطلب وجود الخطط والاستراتيجيات الداعمة لتطوير الخدمة الأمنية كما وكيفا والتوسع في طريقة تقديمها وآليات متابعتها لتتواكب بشكل مستمر مع طبيعة النمو المتسارع في هذه القطاعات، وللقناعة بأن تحقق نتاج الاستدامة في تلك القطاعات، يستدعي اليوم مستويات عالية من الاستقرار والأمن وبيئات حيوية قادرة على تقديم خدماتها النوعية لشرائح المجتمع المختلفة، وهو ما يعني أن مقاربات التنمية والأمن تتأكد بشكل أكبر في التزامها مسار الاستباقية في إدارة التحولات والمهنية في التعاطي مع المعطيات المرتبطة بالسلوك الإنساني، وأهمية أن يتبنى البعد الأمني نُهُجا أخرى تقوم على الاستباقية والجاهزية وتنوع البدائل والدخول في العمق الإنساني واستشراف المستقبل، وادماج قضايا الأخلاق والهوية والمواطنة والمسؤولية المجتمعية والعمل التطوعي والاجتماعي وغيرها في البعد الأمني للاستجابة الفورية لمعطيات المرحلة والارتقاء بمستويات الوعي المتحققة لدى الإنسان العماني، ونقل صورة هذا الوعي الى ممارسات الافراد وسلوكياتهم، والرفع من سقف التوقعات في تعامله مع التشريعات والأحداث والقضايا اليومية الاستهلاكية، أو في تعاملهم مع المواقف المختلفة، واستلهامهم قيم حضارية راقية تقوم على الايجابية والحوار والتواصل والشراكة وحرية التعبير في حدود القانون، وأن يعكس هذا التطور في السياسات الأمنية ومنظورات العمل في البعد الأمني في كافة المجالات الخدمية والإنشائية الأمنية، نجاح السياسات والخطط الأمنية الوطنية في سبيل بناء منظومة مستوعبة للفرص الاقتصادية والاستثمارية واللوجستية، والتعاطي الواعي مع التحديات التي يواجهها الشباب سواء في ملفات الباحثين عن عمل والتشغيل ودور القطاع الخاص في استيعاب المواطنين وقضايا الهوية والمواطنة وغيرها كثير.
من هنا فإن تحقيق التوازن بين السياسات الأمنية والممارسة المهنية للمؤسسات وربطها بحضور المواطن كشريك استراتيجي في تقوية عناصر المعادلة وضمان كفاءة استخدام الأدوات ومهنية التعاطي الأخلاقي معها في وعي حصيف وثقافة رصينة وحس صادق ؛ مسارات نوعية لتحقيق هذه الإنجازات واستدامة الاستفادة منها وتوظيفها، وعندما تتحقق مستويات الوعي بالصورة التي تضمن قدرة المواطن على الاختيار واقتناعه بأن انتقاءه مبني على أسس سليمة ومعايير واضحة تتجه به إلى الخيرية والاتزان والمهنية وإدراك الغايات النبيلة التي توافق مع الإرادة الوطنية، في ظل مراجعة تضع مؤسسات الدولة المعنية أمام تحولات قادمة في مسار الأداء واليات العمل ومبادئ الالتزام، والوصول إلى هذه الغايات بما يتناسب واختصاصاتها ومهام عملها، وعندها سوف يصل الجميع إلى قناعة معززة بالمؤشرات والدلائل بأن قضايا المخدرات والجرائم والمرور وغيرها، يمكن الحد منها لما يتوفر في المقابل من حس وطني ورغبة ذاتية، ويصبح التحدي القادم الذي يجب العمل في إطاره هو : كيف يمكن توظيف هذه الفرص والمعطيات الايجابية والمؤشرات النوعية والإنجازات الأمنية الوطنية على مسارات السياسات والخطط والبرامج، والتي تستهدف جودة حياة المواطن وتعزيز حضور مجتمع السلام والأمن والتنمية؛ في ترسيخ قناعات ايجابية لديه حول القيمة المضافة الخفية المتحققة من استشعاره بقيمة الأمن في حياته، بما ينعكس على جودة ممارساته وتوجيهها نحو تحقيق استدامة التنمية في ظل تكاملية الوعي والحس الوطني ورقابة الذات على المستوى الشخصي والأسري والمجتمعي والوظيفي . ويصبح البعد الأمني امتدادا أصيلا لبناء المواطن القادر على استيعاب الاجراءات والخطط والتوجهات التي حددتها الدولة في مواجهة الحالة الاقتصادية مثلا أو حضوره في بوصلة العمل الوطني، والذي يفترض أن يمهد لمرحلة جديدة تقوم على الثقة مع المواطن والأخذ بيده وتسهيل الإجراءات الاقتصادية والاستثمارية وتيسيرها وأن تتناغم جهود المؤسسات في البحث عن كل ما يؤسس لسعادة المواطن ويرقى به كأنموذج وطني ناتج عن تكامل الأدوار والمسؤوليات نحو وتعاظم الممكنات المتاحة له، وعندها يستشعر حجم التقدير والرعاية التي توفرت له، فيعمل جنبا إلى جنبا في إصلاح ذاته وترقية ممارساته، وتسويق مواهبة ونقل خبراته لتصبح أكثر اقترابا من الواقع وتناغما مع التوجه، وستكون ممارساته داعما استراتيجيا للأمن، وشريكا مهما مع المؤسسات الأمنية في صناعة التحول القادم الذي يتجه لأروقة المؤسسات ومكاتب المسؤولين وأنظمة العمل لينتهي به المطاف إلى الواقع العملي والممارسة الميدانية التي تصنع الالهام والابتكار وتؤطر لاستدامة المنجز.
إن البحث في رؤية الاستدامة من خلال مقاربتها بالبعد الأمني، وما تعيشه السلطنة بفضل الله عز وجل وتوجهات القيادة الحكيمة لجلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ، في إسهام عمان الحضاري بدور فاعل في تحقيق السلام والامن والتعايش والتسامح والوئام الإنساني، والنأي بالسياسة العمانية عن الإنحيازات السلبية والتكتلات الوقتية غير المضمونة، والتعامل مع قضايا المنطقة وأحداث العالم بكل حيادية وموضوعية وحكمة فيظل تبني سياسة التوازنات، والتي انعكست إيجابا على نتائج تقارير السلطنة في التنافسية العالمية لأعوام عديدة لحصولها على أفضل التقديرات العالمية، ومن أفضل دول المنطقة والعالم في الموثوقية الشرطية والجاهزية الأمنية وخلوها من الإرهاب؛ يعطي دلالات قوية على كفاءة المنظومة الأمنية العمانية واسهاماتها الفعلة في استراتيجيات التنمية والدور المتوقع لها في تحقيق فرص الاستدامة، وهي بذلك دفعة أقوى للعمل الأمني الجاد، في مستويات التطوير والتحديث في الأدوات والعمليات الأمنية والشرطية، وبشكل خاص في تعزيز منحى التطوير القائم على الابتكارية بما يحقق سعادة الإنسان في أرض عمان الطيبة، ويرسخ لديه القناعات الايجابية نحو نفسه ووطنه ويدرك من خلاله مسؤوليته نحو تحقيق الأمن الشخصي والمجتمعي والوطني، وانعكاسات ذلك على جهود السلطنة في تعزيز المنظومة الاقتصادية وجهود التنويع الاقتصادي وتقوية البيئة الاستثمارية الاقتصادية الداعمة لنمو هذا القطاع بما ينعكس على مسار الرفاهية الاقتصادية وزيادة دخل الفرد وقدرته على تأمين البعد الاقتصادي لديه عبر فتح منافذ اقتصادية عديدة وترقية الاستثمارات ومشاركة المواطن في بنائها؛ فإن قياس مستوى الكفاءة الأمنية يرتبط بما تقدمه لجودة حياة الإنسان وتسهيل الكثير من أموره وبما يتوافق مع احتياجاته، والمرونة في التشريعات والقوانين وأنظمة العمل والتجديد المستمر فيها، ومستويات التحول على مستوى القدرات والجاهزية والاستعداد الأمني في التعامل مع الأزمات والأحداث والحالات المدارية، وتوجيه السلوك الأمني إلى ترقية البعد الإنساني في التزامه وانضباطه وأخلاقه وانجازه وتقوية الممكنات الفكرية والنفسية والمهارية والقيمية والذوقية والمهنية لديه بالشكل الذي يضمن التصاقه ببرامج التنمية وقطاعات الإنتاج واتصاله بالمنظومة الاقتصادية وما فيها من مفاهيم اقتصادية واستثمارية ودعم مالي وتنفيذ للمشروعات الاقتصادية والأنشطة التجارية وتقوية دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وغيرها؛ موجهات تعكس مسيرة التكامل بين الأمن والتنمية ودور السياسات الأمنية المتوازنة في صناعة تحول في سلوك المواطن وكفاءته بما ينعكس على استفادته من برامج التنمية وحمايتها واحتضانه لها واحتوائها والمحافظة عليها للأجيال القادمة، وإضافة ملامح التجديد والابتكارية والتطوير فيها، وتعميق صلته بالتنمية باعتبارها فلسفة حياة ومنصة للعيش في عوالمها المتعددة.
د. رجب بن علي العويسي
[email protected]